Tuesday, September 29, 2009

اللا معقول في بر مصر - فهمي هويدي

اللا معقول في بر مصر فهمي هويدي

هذه المقالة تعتبر من روائع ما خط الكاتب الكبير فهمي هويدي بقلمه لتكشف للمواطن البسيط القليل مما يعيشه ولا يدري عنه شئ

**************************************************************

بعض الذي يحدث في مصر هذه الأيام من الفداحة بحيث يصعب تصديقه، حتى يستحي المرء أن يتحدث عنه، لأنه كاشف على نحو معيب، يكاد يعيد إلى الأذهان عصر ما قبل الدولة المركزية في الزمن السومري.

(1)
لست في وارد الحديث عن شيء من الأحلام الكبيرة، التي تلوكها أفواه الناشطين وتتصدر عناوين الصحف وبرامج الأحزاب، ليس فقط لأننا أدركنا من خبرة السنين أن تلك الأحلام باتت مؤجلة إلى زمن لا يعلمه إلا الله، ولكن أيضاً لأن بين أحلامنا الصغيرة الكثير الذي لم يتحقق بعد. ما أعنيه على وجه الدقة هو تلك المتطلبات البسيطة، التي تعد من قبيل المعلوم بالضرورة في مقومات استمرار حياة أغلب الكائنات، سواء التي تمشي على رجلين أو تلك التي تمشي على أربع.

من يصدق مثلاً أن التخلص من القمامة لا يزال مشكلة مستعصية على الحل في مصر؟ ومن يصدق أن عاصمة "أم الدنيا" اصبحت عاصمة القذارة في العالم، كما وصفها رئيس تحرير احدى الصحف القومية؟ وهل يعقل أن يبلغ بنا العجز حد فقدان الثقة في إمكانية حل المشكلة في مصر، بما يقتضي الاستعانة في ذلك بالخبرة الأجنبية؟
لقد صرفت بعض الوقت في تحري الأمر، فعلمت أن الشركة الأسبانية تعاقدت على إزالة القمامة من القاهرة والجيزة مقابل مبلغ يصل إلى حوالي 160مليون جنيه سنوياً، وبعد أن جاءت بمعداتها وبدأت العمل من خلال ثلاث شركات اقامتها، فإن أجهزة الإدارة المحلية لم تجد تمويلاً يمكنها من سداد التزاماتها المالية، الأمر الذي أدى إلى تراكم مديونيتها التي وصلت الى 300 مليون جنيه لصالح الأسبان. وحين حاولت حل مشكلة التمويل عن طريق إضافة رسم للنظافة على فواتير الكهرباء، فإن الناس رفضوا دفع الرسوم، وأيدت المحكمة الإدارية العليا موقفهم، استناداً إلى عدم احقية الإدارة المحلية في فرض أي رسوم دون سند من القانون. وحين استحكمت الأزمة توقفت شركات النظافة عن العمل أو قصرت فيه، ووصل الأمر إلى القضاء الذي فرض غرامات على الإدارة المحلية، لكنها جاءت متواضعة إلى الحد الذي لم يكن كافياً لاستئناف شركات النظافة لعملها. وفي حين بقى الموضوع معلقاً، فإن المشهد العبثي ظل قائماً، واصبحت ضمن مشكلات الساعة العصية على الحل!



(2)
هل يعقل أن يصبح كوب المياه النظيفة مطلباً عزيز المنال؟ هذا سؤال آخر موجع، طفا على السطح في الآونة الأخيرة، بعدما انفجرت قضية تلوث المياه في محافظة الدقهلية بدلتا مصر، الأمر الذي أدى إلى وفاة فتاتين، وتسميم أكثر من 180شخصاً، أودعوا المستشفيات. وبعدما وقعت الواقعة، انفتح ملف المياه الملوثة في مصر كلها، وتنافست الصحف المصرية في متابعة ملفات القضية، الأمر الذي كشف عن مجموعة من المعلومات المثيرة والمدهشة، التي بينت أن شواهد الكارثة كانت ظاهرة للعيان ومعلومة للجهات المعنية منذ عدة سنوات لكن احداً لم يهتم بها. من تلك المعلومات ما يلي:

-
إن اساتذة كلية العلوم بجامعة المنصورة أعدوا في العام الماضي تقريراً حول مشكلة تلوث مياه الشرب، التي تؤدي إلى الإصابة بالفشل الكلوي والسرطان. ومن النتائج التي توصل إلىها التقرير، وعرضها الدكتور مجدي خليفة استاذ الكيمياء بالجامعة الذي شارك في اعداده، تبين أن 100ألف مصري يصابون بالسرطان سنوياً بسبب تلوث المياه، اضافة إلى 35 ألفاً يصابون بالفشل الكلوي، بينهم 17 ألف طفل. تبين أيضاً أن 330 مصنعاً تلقي بنفاياتها في النيل بواقع 4.5 مليون متر مكعب سنوياً، إضافة إلى أن 30% من استخدامات الزراعة مثل الأسمدة والمبيدات تتسرب إلى مياه الصرف، وتصل إلى النيل لتنتقل منه إلى النبات والحيوان. كما كشف التقرير عن أن 1500 قرية في صعيد مصر تصب مياه الصرف الصحي مباشرة في النيل، دون أية معالجة.

-
تحدثت دراسة أخرى أعدت عام 2003عن ارتفاع نسبة السموم في المياه. وحين تم تحليل عينات المياه في معامل كلية علوم المنصورة تبين وجود نسبة عالية للغاية من المبيد المعروف باسم "دي.دي.تي" (أكثر 250 مرة من النسبة المسموح بها). كما تبين اختلاط المياه بمادة الأيزوسيانيد وثمانية أنواع من المبيدات الحشرية القاتلة. اشارت الدراسة أيضاً إلى أن مصادر التلوث لا تقف عن القاء المخلفات الصناعية والزراعية والصرف الصحي في النيل، وإنما هناك مصدر آخر هو مواسير الشرب ذاتها التي تعد ناقلة للتلوث، علماً أن محطات مياه الشرب لا توجد بها معامل على مستوى عال للكشف عن البكتريا والفيروسات.

-
في تصريحات أدلى بها الدكتور مغاوري دياب استاذ جيولوجيا المياه ورئيس جامعة المنوفية السابق، قال إن 80% من محطات معالجة المياه في دلتا مصر انتهى عمرها الافتراضى، وتعتمد على المياه الجوفية (التي اختلطت مع مياه الصرف)، في حين أن 20% فقط من المحطات تحصل على المياه من النيل. قال أيضاً إن الصرف الصحي في 96% من قرى مصر يتم بطريقة بدائية عبر خزانات النزح التي تختلط فيها مياه الشرب مع المخلفات الناتجة عن الفضلات الآدمية والحيوانية. من الملاحظات التي ابداها الدكتور دياب أن ثمة دراسات علمية رصدت بدقة وضع المياه في الدلتا منذ عام 1980، ونبهت إلى زيادة نسبة التلوث المستمر فيها، ولكن هذه الدراسات لم يأبه بها أحد، وجرى تكديسها في الأدراج المغلقة.

-
سمعت من السيد مصطفى القاياتي وكيل لجنة الإسكان بمجلس الشعب، أن اللجنة اجتمعت مع وزير الإسكان وناقشته في الأمر، وكان مما قاله إن محطات المياه وشبكة الصرف الصحي في مصر في حالة يرثى لها، وأنه طلب 20مليار جنيه لحل مشكلتها مع التداعيات المترتبة عليها، ولكن ما تم اعتماده في الميزانية لم يتجاوز ملياري جنيه فقط، الأمر الذي قيد حركة الوزارة إلى حد كبير، وأعجزها عن تقديم حل جذرى للمشكلة.

(3)
في رحلة البحث عن اسباب ظهور الأمراض الفتاكة في ريف مصر، وقعت على ندوة ناقشت الموضوع بمشاركة ثلاثة من أساتذة جامعة المنصورة، الذين ادلوا بمعلومات مخيفة وصادمة، نشرتها على حلقتين في شهر يونيو الماضي صحيفة محلية باسم "البلد". الأساتذة الثلاثة هم: الدكتور فريد بدري استاذ العقاقير والدكتور عادل المنصوري استاذ الطب الشرعي، والدكتور جمال العبيدي استاذ جراحة الجهاز الهضمي. في مقدمة تلك المعلومات ما يلي:

-
إن السبب الأساسي لانتشار أمراض السرطان والفشل الكبدي والكلوي في مصر يرجع إلى تلوث الأغذية بالسموم الفطرية، التي توجد بشكل مكثف في القمح (مصر تستورد منه 10ملايين طن سنوياً). لسد الفجوة الكبيرة بين الاستهلاك والإنتاج. ذلك أن الشحنات المستوردة تتعرض في رحلتها عبر البحار للأمطار والرطوبة التي تسرب إلىها التعفن، لتتحول كميات القمح والذرة المستوردة إلى مادة قاتلة.

-
من تلك السموم الفطرية ما يعرف بـ"الأوكراتوكسين"، الذي يوجد في الذرة الصفراء، وثبت أنه وراء 70% من حالات الفشل الكلوي في مصر. يضاف إلىه سم "الافلاتوكسين" الموجود في القمح وفول الصويا والردة (غذاء الإنسان والحيوان) وهو المسؤول عن السرطان والفشل الكلوي. وثمة سم ثالث من الفطريات باسم "الفيوماتثنين"، الذي يدمر خلايا المخ ويصيبه بالشلل.

-
ان ثمة رسالة دكتوراه اجيزت بكلية زراعة المنصورة. اثبتت وجود نسبة عالية من فطر الأوكراتوكسين والافلاتوكسين فى اعلاف الدواجن والحيوانات والاسماك فى مصر، وهذه وصلت الى 600 جزء فى البليون، فى حين ان المسموح به دولياً لا يتجاوز 5 أجزاء فى البليون.

-
فى عام 1996 نشر بحث فى مختلف الدوريات العلمية العالمية حول عشرة آلاف حالة فشل كلوى بمركز الكلى بجامعة المنصورة، أثبت منه ان 60% من الاصابات كان سببها سم الأوكرا توكسين الفطرى.

-
هناك اسباب أخرى للتلوث الى جانب الفطريات السامة، منها النفايات والمواد الصلبة التى تلقى فى المياه، وتؤدى الى الاصابة بالسرطان. وهذه حولت بحيرة المنزلة المصدر الأول للأسماك بالدلتا، الى أكبر حامل للمواد السامة والمعادن الثقيلة فى مصر.

-
بسبب الفساد المستشرى فى أوساط الرقابة على الحبوب المستوردة المحملة بالسموم، ونتيجة لعدم الاهتمام بظاهرة التلوث، فقد انتشرت حالات الاصابة بالسرطان والفشل الكلوى فى دلتا مصر. آية ذلك ان مركز الأورام بالمنصورة وحده أصبح يستقبل اسبوعياً 100 حالة مصابة بسرطان الاطفال، الأمر الذى يثير سؤالاً كبيراً حول عدد المرضى الذين يفدون الى تلك المراكز فى بقية انحاء الجمهورية. ومن غريب ما صادفه أطباء المنصورة انهم استقبلوا طفلاً عمره 8 اشهر فقط اصيب بسرطان الدم. وما كان له ان يصاب على ذلك النحو إلا لأن مشيمة الأم ولبنها تشبعا بالسموم الفطرية، نتيجة تغذيتها على القمح والذرة.

-
الكارثة يمكن تخفيفها والحد من خطرها عن طريق زيادة انتاج القمح والذرة، لأن الحبوب التى تنتج محلياً تخلو من الفطريات السامة، باعتبار انها تحت السيطرة، كما ان استهلاكها يتم مباشرة ولا تتعرض للتعفن. ومن أسف انه لا توجد عناية كافية بهذا الحل. يشهد بذلك ان أحد العلماء المصريين - الدكتور عبد السلام جمعه - استنبت سنبلة عملاقة جعلت المكسيك تكتفى ذاتياً من القمح، وحين تحدث عن اكتفاء مصر من القمح، أودع مخازن وزارة الزراعة ليعمل بها!

(4)
ونحن نتابع مشاهد اللامعقول في بر مصر، لا نستطيع أن ننسى الاهمال والتواطؤ الذى ادى الى غرق العبارة الشهيرة "السلام 89"، وتسبب في قتل اكثر من 1300 مواطن (للعلم فإن الرقم يفوق ضحايا العدوان الاسرائيلي على لبنان الذى استمر شهرا كاملا). وهى الجريمة التي لم يحاسب المسؤولون عنها رغم مضي سبعة اشهر على وقوعها. لا نستطيع ايضا ان نتجاهل الانهيار المروع في مرفق السكة الحديد، وما سببه من كوارث كل عام اهدرت دماء مئات المصريين الفقراء. لا نستطيع كذلك ان نتجاهل فضيحة السحابة السوداء، التي تحولت الى لغز حير المصريين وعذبهم للعام السابع على التوالي. فقط اذكر في هذا الصدد بالتقرير الذى بثته وكالة الانباء الفرنسية قبل ايام (في 23/10) وقالت فيه ان معدل التلوث فى القاهرة أعلى عشر مرات من المؤشر العالمى الذى حددته منظمة الصحة العالمية، الأمر الذى يصنفها ضمن أكثر مدن العالم تلوثاً. اضاف التقرير أن التلوث الذى ينشأ عن أدخنة المصانع فى مصر يتسبب فى موت 5 آلاف مواطن سنوياً. كما نقل عن استاذ فى علوم البيئة - الدكتور صلاح حسنين - قوله ان التلوث سيؤدى الى اصابة قرابة نصف مليون مصرى بمشكلات فى التنفس وبالسرطان خلال فترة تتراوح بين 5 سنوات و25 عاماً.


(5)

اذا قال قائل إن تلك المشاهد بمثابة اطلالة على النصف الفارغ من الكأس، فلن اختلف معه. معتبرا أن هذه ليست القضية، لأن السؤال الأهم هو ما إذا كانت المشاهد حقيقية ام انها مفتعلة ومغلوطة. ولأن ثمة دلائل على صحتها، وحتى يثبت العكس _ فإن حاصل جمعها اذا انضافت اليها ظواهر التدهور في التعليم العام والجامعي، وفي المستشفيات العمومية، والفساد المستشري في المحليات، ذلك كله يوصلنا إلى نتيجة خلاصتها أن الأجهزة الحكومية فشلت في مباشرة وظيفتها الاساسية، المتمثلة في ادارة وتشغيل مختلف المرافق التي تخدم عموم المواطنين. وهو ما بات يهدد حق الناس في الحياة. وحين يصبح المواطنون في خطر فإن الوطن ذاتـه يغدو في خطر. وهو ما يسوغ لي أن اقول إن ما يحدث في مصر الآن يمثل تهديداً صريحاً للأمن القومي في البلد.

إن عشر معشار المشاهد التي مررنا بها يقيم الدنيا ولا يقعدها في أي مجتمع حي. إذ يفجر غضبا ويسقط حكومات ويخضع كل الرؤوس المعنية للمساءلة والمحاسبة السياسية وربما الجنائية أيضا. لكن ظاهر الأمر يوحي بأن الوضع مختلف في بلادنا، حيث يمر كل شىء ويبتلع، ولا اعرف إن كان ذلك يؤدي إلى هضمه أم إلى اختزانه.

المدهش في الأمر، أنه في حين يحلم المواطن بكوب ماء نظيف، فإنه يسمع صوتا آتياً من طبقات السلطة العليا يتحدث عن توفير حاسب الى لكل بيت. وفي حين تهدد السموم حياة الناس وتختنق انفاسهم بتأثير السحابة السوداء، فإنهم يستقبلون بالمقابل اصواتاً اخرى تحدثهم عن دخول عصر المفاعلات النووية. وتلك طموحات طيبه ومشروعة لا ريب، لكنها في ظل اوضاعنا التي مررنا بها تبدو محاولة لنيل شهادة الدكتوراه، قبل تحقيق النجـاح المطلوب في شهادة الاعدادية.

لست انكر ان الحكومة بذلت الكثير في مجالات تشجيع الاستثمار والخصخصة والتيسير على المستوردين والمتعثرين في سداد مديونياتهم المليونية للبنوك، لكن شواهـد الحال تدل على أننا بحاجة ايضا لمن يهتم بنظافة البلد وادارة مرافقها العمومية، بما يجنب المواطنين كوارث القطارات وينقذهم من الأمراض التي تفتك بهم. وهو ما يسوغ لي أن أتساءل عما اذا كان الوقت قد حان للدعوة إلى اقامة حكومة اخرى موازية للمواطنين العاديين، البسطاء والفقراء والمستضعفين ـ ما رأيكم دام فضلكم؟.

No comments: